كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وَالْمُرَادُ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ كَقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أَيْ حُبَّهُ قال: وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ القرآن شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ. لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تعالى أَنْ يُقال: بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ بَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ. وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ أَوْ أَفْضَلَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ. وَقال: مَعْنَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ: الْعَظِيمُ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْعَظَمَةِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ حَالُ النَّاسِ حِينَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الْأَعْظَمُ بِحَسَبِ حَالِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَعَظُمَ. وَهَذَا الْقول الَّذِي قالهُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَظِيرَ الْقول الثَّانِي فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْقول الثَّانِيَ لِمَنْ مَنَعَ تَفْضِيلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ أَوْ خَيْرًا كَوْنُهُ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ؛ لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَذَا الْقول يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ قالوا: إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فَاضِلٌ وَقالوا: مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ تَقْصِيرُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ وَهَذَا يَقولونَهُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وَأحد بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَمَاثُلُ أَوْ تَفَاضُلُ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَلِامْتِنَاعِ التَّغَايُرِ وَلَا يَقولونَ هَذَا فِي القرآن الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ القرآن الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قول الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ قالوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ يَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالقرآن الْعَرَبِيُّ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِيَامُهُ بِذَاتِ اللَّهِ تعالى وَلَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ لَبَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قولهمْ إنَّ القرآن مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ القرآن الْعَرَبِيَّ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ. وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَقول: إنَّ لَفْظَ (كَلَامِ اللَّهِ) يَقَعُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ عِنْدَهُمْ. وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَانِي بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْوَاحد فَقَطْ وَأَنَّ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ هِيَ شيء واحد لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ. فَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أحد وَتَبَّتْ وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُلِّ حَدِيثٍ إلَهِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ: إنَّمَا هِيَ مَعْنًى وَأحد بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ. وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّ القرآن الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ: جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحد وَذَلِكَ الْوَاحد هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لِلْكَلَامِ وَأَقْسَامًا لَهُ فَإِنَّ الْوَاحد بِالْعَيْنِ لَا يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ؛ بِخِلَافِ الْوَاحد بِالنَّوْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْوَاحد بِالْعَيْنِ وَهِيَ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لَهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ أَمْرًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُنْهَى عَنْهُ كَانَ نَهْيًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُخْبَرُ عَنْهُ كَانَ خَبَرًا. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقولونَ: فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَعَانِيَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَلَا مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ مَعَانِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ هِيَ مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فلابد لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَإِنْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي الْكَلَامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ وَإِنْ قَامَ بِذَاتِ غَيْرِهِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لِلَّهِ وَإِنْ قَامَ لَا بِمَحَلِّ كَانَ مُمْتَنِعًا؛ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا؛ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ أَمْرًا عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحد لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. وَالْحَقَائِقُ الْمَخْبَرُ عَنْهَا وَالْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَا تَكُونُ بِأَنْفُسِهَا مُخْبَرًا بِهَا وَمَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا بَلْ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْأَمْرُ بِهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا هُوَ غَيْرُ ذَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا امْتِيَازَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ: لَمْ يَكُنْ هُنَا مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَلَا مَا يَجْعَلُ مَعَانِيَ آيَةِ الْوُضُوءِ غَيْرَ مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمَخْلُوقَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَنْوِيعَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَلُّقَاتِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ فَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا وَنَفْسُ القرآن الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ هُوَ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْمَدْلُولُ إنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَمْرٌ عَنْ خَبَرٍ وَلَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ عَنْ أَمْرٍ بِزَكَاةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ عَنْ إخْبَارٍ بِتَوْحِيدِ. وَإِنْ كَانَتْ التَّعَلُّقَاتُ عَدَمِيَّةً فَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَا يَكُونُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالقرآن وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ أُمُورًا عَدَمِيَّةً لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي بِهَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْوَاحد بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ إلَّا صِفَاتٍ إضَافِيَّةً وَهِيَ مِنْ مَعْنَى السَّلْبِيَّةِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ سَلْبَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَهِيَ تَعَلُّقٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ- عَلَى قول هَؤُلَاءِ- أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ لَا مَعَانٍ وَلَا حُرُوفٌ إلَّا بِمَعْنَى وَأحد لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْلُومَةً. وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ نَاقِصًا عَنْ الْفَاضِلِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا وَالقرآن مِنْ صِفَاتِهِ.
قال هَؤُلَاءِ: صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ. ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ ظَنُّوا أَنَّ الْقول بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى قول الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَمْكَنَ الْقول بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
قالوا: وَأَمَّا عَلَى قول أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ القرآن كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِقَادِ صَارَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ يَذْكُرُ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّفْضِيلِ فِي القرآن كَمَا قال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّرَّاجِ فِي مُصَنَّفٍ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قال: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ آيِ القرآن وَسُورِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلَ ذَوَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؛ إذْ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لِلَّهِ فَاضِلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْوَاجِبِ لَهَا نَعْتُ الْكَمَالِ. وَهَذَا النَّقْلُ لِلْإِجْمَاعِ هُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقولونَ: القرآن كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَظَنَّ هُوَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الصِّفَاتِ قال مَا قال. وَإِلَّا فَلَا يُنْقَلُ عَنْ أحد مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ فَضْلَ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ: لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي لَوَازِمِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا. وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لِابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ وُقُوعَ الْمُفَاضَلَةِ فِي القرآن الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الْمَخْلُوقُ يُسَمَّى (كِتَابَ اللَّهِ) وَالْمَعْنَى الْقَدِيمُ يُسَمَّى (كَلَامُ اللَّهِ) وَلَفْظُ (القرآن) يُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمُ وَالقرآن الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ. وَحِينَئِذٍ فَهِمَ يَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ القرآن عَلَى بَعْضٍ عَلَى القرآن الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ. وَإِنَّمَا الْقول الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قالوا: القرآن كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَقالةَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قال ذَلِكَ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَسَانِيدِهَا وَغَيْرِ أَسَانِيدِهَا كَثِيرَةٌ: مِثْلُ: (كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة) لِلْأمام أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ و(الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ و(الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة) لِلْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الخزاعي و(كِتَابِ السُّنَّةِ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ و(السُّنَّةِ) لِحَنْبَلِ ابْنِ عَمِّ الإمام أَحْمَد و(السُّنَّةِ) لِأَبِي دَاوُد السجستاني و(السُّنَّةِ) لِلْأَثْرَمِ و(السُّنَّةِ) لِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ و(السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) لِخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ و(الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة) لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي. و(نَقْضِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الجهمي الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ) و(كِتَابِ التَّوْحِيدِ) لِابْنِ خُزَيْمَة و(السُّنَّةِ للطبراني) وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني و(شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ) لِأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي و(الْإِبَانَةِ) لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَكُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده و(السُّنَّةِ) لِأَبِي ذَرٍّ الهروي و(الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) للبيهقي و(الْأُصُولِ) لِأَبِي عُمَرَ الطلمنكي و(الْفَارُوقِ) لِأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ و(الْحُجَّةِ) لِأَبِي الْقَاسِمِ التيمي. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي يَطُولُ تَعْدَادُهَا: الَّتِي يَذْكُرُ مُصَنِّفُوهَا الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظِهِمْ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ مِنْهَا أَقْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة لِأَهْلِ السُّنَّةِ- الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَمَّا صَبَرَ فِيهَا الإمام أَحْمَد وَقَامَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالسُّنَّةَ وَأَطْفَأَ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ- ظَهَرَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ القرآن كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الَّذِينَ أحدثُوا فِي الْإِسْلَامِ الْقول بِأَنَّ القرآن مَخْلُوقٌ هُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْجَهْمِيَّة لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقول أحد مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. فَهَذَا الْقول هُوَ الْقول الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْقول بِأَنَّ القرآن كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا الْقول لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحد مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمِحْنَةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَلَا عَنْ أحد قَبْلَهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحد مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هَذَا نَقْلٌ لِمَا يَظُنُّهُ النَّاقِلُ لَازِمًا لِمَذْهَبِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ القرآن مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَمْتَنِعُ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ نَقَلَ امْتِنَاعَ التَّفَاضُلِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّلَازُمِ. وَلَكِنْ يُقال لَهُ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَمَنْقولةٌ عَنْهُمْ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ فَهَلْ يُمْكِنُك أَنْ تَنْقُلَ عَنْ أحد مِنْ السَّلَفِ قولا بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَنْقُلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا عَلِمْت أحدا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ عَنْ أحد مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قال مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا. وَلَكِنْ إنْ كَانَ قال قَائِلٌ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا قوله فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ وَيَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَلَامِ السَّلَفِ أَنَّ الْقول بِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا قالهُ وَأحد وَاشْتَهَرَ قوله عِنْدَ الْبَاقِينَ فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نُقِلَ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَنْقول الثَّابِتُ عَنْهُمْ- أَوْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ تَفَاضُلَ صِفَاتِ اللَّهِ تعالى وَهَكَذَا مَنْ قال مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ القرآن لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ القرآن كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَخْلُوقِ لَا فِي الصِّفَاتِ وَهَذَا الظَّنُّ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ أحد مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَلَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا شَنَّعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِخِلَافِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي رَدِّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إذَا عَدَلَتْ بِثُلُثِ القرآن أَنَّهَا تَفْضُلُ الرُّبُعَ مِنْهُ وَخُمُسَهُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقال: فَهَذَا لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ إذْ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ؛ إذْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْعُلُوِّ وَالْكَرَامَةِ فَمَنْ تَنَقَّصَ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِيهَا أَلَا تَسْمَعُهُ مَنَعَ ذَلِكَ بِقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عِضِينَ}.
قال: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ القرآن صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ.
قال: وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَلَا يَخْلُو مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ أحد وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ النَّاسِخَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخَةِ فِي ذَاتِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهَا لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهَا إذْ مُحَالٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ القرآن فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ القرآن الْعَزِيزَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ. فَلَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ فِي ذَاتِهَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا لَمْ يَنْقُلْ عِبَادَهُ مِنْ تَخْفِيفٍ إلَى تَثْقِيلٍ وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُمْ بِالنَّسْخِ مِنْ تَحْرِيمٍ إلَى تَحْلِيلٍ وَمِنْ إيجَابٍ إلَى تَخْيِيرٍ وَمِنْ تَطْهِيرٍ إلَى تَطْهِيرٍ وَالشَّاهِدُ لَنَا قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. فَيُقال: أَمَّا قول الْقَائِلِ: لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى مُثْبِتِ الْمُفَاضَلَةِ بِالْكُفْرِ. فَهُمْ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ أَقْوَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بَلْ عُلِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ أَنْكَرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ وَلَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ صِفَاتِهِ تعالى بَلْ وَلَا نَقْلَ هَذَا النَّفْيِ عَنْ أحد مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ جُعِلُوا أَعْلَامًا لِلسُّنَّةِ وَأَئِمَّةً لِلْأُمَّةِ.
وَأَمَّا تَفْضِيلُ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ؛ بَلْ تَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضِ: فَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَا تَتَفَاضَلُ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ تَفَاضُلِهَا مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ فَالدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّفْضِيلُ لَكَانَ كُفْرُ جَأحد ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كُفْرِ مَنْ يُثْبِتُ التَّفْضِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَحَدَ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ بَلْ لَمَّا رَآهُ بِعَقْلِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ؛ إذْ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ لَمْ يُخَالِفْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا. وَنَظِيرُ هَذَا قول بَعْضِ نفاة الصِّفَاتِ لَمَّا تَأَمَّلَ حَالَ أَصْحَابِهِ وَحَالَ مُثْبِتِيهَا قال: لَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَالِنَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانُوا مُصِيبِينَ فَقَدْ نَالُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فَإِنَّهُمْ يَقولونَ: نَحْنُ يَا رَبِّ صَدَّقْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُك وَسُنَّةُ رَسُولِك إذْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّ كَلَامُك عَلَى إثْبَاتِهَا فَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُك وَكَلَامُ رَسُولِك فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّسُولُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقول بَلْ إنَّ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَفْرَادُ فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْمُنْتَهِينَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ يُقِرُّونَ بِالْحَيْرَةِ وَالِارْتِيَابِ.